فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنْتُم فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ} يعني آدم.
{ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} يعني ولده {ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ} يعني أن النطفة تصير في الرحم علقة {ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ} يعني أن العلقة تصير مضغة، وذلك مقدار ما يمضع من اللحم.
{مُّخَلَّقَةٍ وَغِيْرِ مُخَلَّقَةٍ} فيه أربعه تأويلات:
أحدها: أن المخلقة ما صار خلقًا، وغير مخلقة ما دفعته الأرحام من النطف فلم يصير خلقًا، وهو قول ابن مسعود.
والثاني: معناه تامة الخلق وغير تامة الخلق، وهذا قول قتادة.
والثالث: معناه مصورة وغير مصورة كالسقط، وهذا قول مجاهد.
والرابع: يعني التام في شهوره، وغير التام، قاله الضحاك، قال الشاعر:
أفي غير المخلقة البكاءُ ** فأين العزم ويحك والحَياءُ

{لِّنُبيِّنَ لَكُمْ} يعني في القرآن بدء خلقكم وتنقل أحوالكم.
{وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نشاء إِلّى أَجَلٍ مُّسَمًّى} قال مجاهد: إلى التمام.
{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ} وقد ذكرنا عدد الأشُدّ.
{وَمِنْكُم مَّن يُتَوَفّى} فيه وجهان:
أحدهما: يعني قبل أن تبلغ إلى أرذل العمر.
والثاني: قبل بلوغ الأَشُدّ.
{وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: الهرم، وهو قول يحيى بن سلام.
والثاني: إلى مثل حاله عند خروجه من بطن أمّه، حكاه النقاش.
والثالث: ذهاب العقل، قاله اليزيدي.
{لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} فيه وجهان:
أحدهما: لا يستفيد علمًا ما كان به عالمًا.
الثاني: لا يعقل بعد عقله الأول شيئًا.
ويحتمل عندي وجهًا ثالثًا: أنه لا يعمل بعد علمه شيئًا، فعبر عن العمل بالعلم لافتقاره إليه لأن تأثير الكبر في العمل أبلغ من تأثيره في العلم.
{وتَرَى الأرض هَامِدَةً} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: غبراء، وهذا قول قتادة.
والثاني: يابسة لا تنبت شيئًا، وهذا قول ابن جريج.
والثالث: أنها الدراسة، والهمود: الدروس، ومنه قول الأعشى:
قالت قتيلة ما لجسمك شاحبًا ** وأرى ثيابك باليات همَّدا

{فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} وفي {اهْتَزَّتْ} وجهان:
أحدهما: معناه أنبتت، وهو قول الكلبي.
والثاني: معناه اهتز نباتها واهتزازه شدة حركته، كما قال الشاعر:
تثني إذا قامت وتهتز إن مشت ** كما اهتز غُصْن البان في ورق خضرِ

{وَرَبَتْ} وجهان:
أحدهما: معناه أضعف نباتها.
والثاني: معناه انتفخت لظهور نباتها، فعلى هذا الوجه يكون مقدمًا ومؤخرًا وتقديره: فإذا أنزلنا عليها الماء رَبتْ واهتزت، وهذا قول الحسن وأبي عبيدة، وعلى الوجه الأول لا يكون فيه تقديم ولا تأخير.
{وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} فيه وجهان:
أحدهما: يعني من كل نوع، وهو قول ابن شجرة.
والثاني: من كل لون لاختلاف ألوان النبات بالخضرة والحمرة والصفرة.
{بَهِيجٍ} يعني حسن الصورة. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله تعالى: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث} الآية هذه احتجاج على العالم بالبداءة الأولى وضرب الله تعالى في هذه الآية مثلين إذا اعتبرهما الناظر جوز في العقل البعثة من القبور، ثم ورد خبر الشرع بوجوب ذلك ووقوعه، والريب الشك، وقوله تعالى: {إن كنتم} شرط مضمنه التوفيق، وقرأ الحسن بن أبي الحسن البعَث بفتح العين وهي لغة في البعث عند البصريين وهي عند الكوفيين تخفيف بعث وقوله تعالى: {فإنا خلقناكم من تراب} يريد آدم ثم سلط الفعل عليهم من حيث هم من ذريته، وقوله تعالى: {ثم من نطفة} يريد المنى الذي يكون من البشر، والنطفة تقع على قليل الماء وكثيره، وقال النقاش المراد {نطفة} آدم، وقوله تعالى: {ثم من علقة}، يريد من الدم تعود النطفة إليه في الرحم أو المقارن للنطفة، والعلق، الدم العبيط وقيل العلق، الشديد الحمرة فسمي الدم لذلك، وقوله تعالى: {ثم من مضغة} يريد بضعة لحم على قدر ما يمضغ، وقوله تعالى: {مخلقة} معناه متممة البنية، {وغير مخلقة} غير متممة أي التي تستسقط قاله مجاهد وقتادة والشعبي وأبو العالية فاللفظة بناء مبالغة من خلق ولما كان الإنسان فيه أعضاء متباينة وكل واحد منها مختص بخلق حسن في جملته تضعيف الفعل لأن فيه خلقًا كثيرة، وقرأ ابن أبي عبلة {مخلقةً} بالنصب {وغيرَ} بالنصب في الراء ويتصل بهذا الموضوع من الفقه أن العلماء اختلفوا في أم الولد اذا أسقطت مضغة لم تصور هل تكون أم ولد بذلك فقال مالك والأوزاعي وغيرهما: هي أم ولد بالمضغة إذا علم أنها مضغة الولد، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا حتى يتبين فيه خلق ولو عضو واحد، وقوله تعالى: {لنبين} قالت فرقة معناه لنبين أمر البعث فهو اعتراض بين الكلامين، وقرأت هذه الفرقة بالرفع في {نقرُّ}، المعنى ونحن نقر وهي قراءة الجمهور، وقالت فرقة {لنبين} معناه بكون المضغة غير مخلقة وطرح النساء إياها كذلك نبين للناس أن المناقل في الرحم هي هكذا، وقرأت هذه الفرقة {ونقرَّ} بالنصب وكذلك قرأت {ونخرجَكم} بالنصب وهي رواية المفضل عن عاصم، وحكى أبو عمرو الداني أن رواية المفضل هذه هي بالياء في {يقر} وفي {يخرجكم} والرفع على هذا التأويل سائغ ولا يجوز النصب على التأويل الأول، وقرأ ابن وثاب {ما نشاء} بكسر النون، والأجل المسمى هو مختلف بحسب جنين جنين فثم من يسقط وثم من يكمل أمره ويخرج حيًّا، وقوله تعالى: {طفلًا} اسم الجنس أي أطفالًا، واختلف الناس في الأشد من ثمانية عشر إلى ثلاثين، إلى اثنين وثلاثين، إلى ستة وثلاثين، إلى أربعين، إلى خمسة وأربعين، واللفظ تقال بإشتراك، فأشد الإنسان على العموم غير أشد اليتيم الذي هو الاحتلام، والأشد في هذه الآية يحتمل المعنيين، والرد إلى أرذل العمر هو حصول الإنسان في زمانه واختلال قوة حتى لا يقدر على إقامة الطاعات واختلال عقل حتى لا يقدر على إقامة ما يلزمه من المعتقدات، وهذا أبدًا يلحق مع الكبر وقد يكون {أرذل العمر} في قليل من السن بحسب شخص ما لحقته زمانة وقد ذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه {أرذل العمر} خمسة وسبعون وهذا فيه نظر وإن صح عن علي رضي الله عنه فلا يتوجه إلا أن يريد على الأكثر فقد نرى كثيرًا أبناء ثمانين سنة ليسوا في أرذل العمر، وقرأ الجمهور: {العمر} مشبعة وقرأ نافع {العمر} مخففة الميم واختلف عنه، وقوله تعالى: {لكيلا يعلم} أي لينسى معارفه وعلمه الذي كان معه فلا يعلم من ذلك شيئًا فهذا مثال واحد يقضي للمعتبر به أن القادر على هذه المناقل المتقن لها قادر على إعادة تلك الأجساد التي أوجدها بهذه المناقل إلى حالها الأولى.
{وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ}.
هذا هو المثال الثاني الذي يعطي للمعتبر فيه جواز بعد الإجساد وذلك أن إحياء الأرض بعد موتها بين فكذلك الأجساد، و{هامدة} معناه ساكنة دارسة بالية ومنه قيل همد الثوب إذا بلي، قال الأعشى: الكامل:
قالت قتيلة ما لجسمك شاحبًا ** وأرى ثيابك باليات همدا

واهتزاز الأرض هو حركتها بالنبات وغير ذلك مما يعتريها بالماء، {وربت} معناه نشزت وارتفعت ومنه الربوة وهو المكان المرتفع، وقرأ جعفر بن القعقاع {وربأت} بالهمز، ورويت عن أبي عمرو وقرأها عبد الله بن جعفر وخالد بن إلياس وهي غير وجيهة ووجهها أن تكون من ربأت القوم إذا علوت شرفًا من الأرض طليعة فكأن الأرض بالماء تتطاول وتعلو، والزوج النوع، والبهيج فعيل من البهجة وهي الحسن قاله وقتادة وغيره. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {يا أيها الناس} يعني: أهل مكة {إِن كنتم في ريب من البعث} أي: في شك من القيامة {فإنا خلقناكم من تراب} يعني: خَلْقَ آدم {ثم من نطفة} يعني: خَلْقَ ولده، والمعنى: إِن شككتم في بعثكم فتدبَّروا أمر خلقكم وابتدائكم، فإنكم لا تجدون في القدرة فرقًا بين الابتداء والاعادة.
فأما النطفة، فهي المني.
والعلقة: دم عبيط جامد.
وقيل سميت علقة لرطوبتها وتعلُّقها بما تمرُّ به، فإذا جفَّت فليست علقةً.
والمضغة: لحمة صغيرة.
قال ابن قتيبة: وسميت بذلك، لأنه بقدر ما يُمضغ، كما قيل: غرفة لقدر ما يُغرَف.
قوله تعالى: {مخلَّقةٍ وغيرِ مخلَّقةٍ} فيه خمسة أقوال.
أحدها: أن المخلَّقة: ما خُلق سويًّا، وغير المخلَّقة: ما ألقته الأرحام من النطف، وهو دم قبل أن يكون خَلْقًا، قاله ابن مسعود.
والثاني: أن المخلَّقة: ما أُكمل خَلْقه بنفخ الروح فيه، وهو الذي يولَد حيًّا لتمامٍ، وغير المخلَّقة: ما سقط غير حيٍّ لم يكمل خَلْقُه بنفح الروح فيه، هذا معنى قول ابن عباس.
والثالث: أن المخلَّقة: المصوَّرة، وغير المخلَّقة: غير مصوَّرة، قاله الحسن.
والرابع: أن المخلَّقة وغير المخلَّقة: السقط، تارة يسقط نطفة وعلقة، وتارة قد صُوِّر بعضه، وتارة قد صُوِّر كلُّه، قاله السدي.
والخامس: أن المخلَّقة: التامة، وغير المخلَّقة: السقط، قاله الفراء، وابن قتيبة.
قوله تعالى: {لنبيِّنَ لكم} فيه أربعة أقوال.
أحدها: خلقناكم لنبيِّن لكم ما تأتون وما تذَرون.
والثاني: لنبيِّن لكم في القرآن بُدُوَّ خَلْقِكم، وتنقُّلَ أحوالكم.
والثالث: لنبيِّن لكم كمال حكمتنا وقدرتنا في تقليب أحوال خلقكم.
والرابع: لنبيِّن لكم أن البعث حق.
وقرأ أبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة: {ليبيِّن لكم} لكم بالياء.
قوله تعالى: {ونقرُّ في الأرحام} وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء: {ويُقَرُّ} بباء مرفوعة وفتح القاف ورفع الراء.
وقرأ أبو الجوزاء، وأبو إِسحاق السَّبيعي: {ويُقِرَّ} بياء مرفوعة وبكسر القاف ونصب الراء.
والذي يُقَرُّ في الأرحام، هو الذي لا يكون سقطًا، {إِلى أجلٍ مسمى} وهو أجل الولادة {ثم نخرجكم طفلًا} قال أبو عبيدة: هو في موضع أطفال، والعرب قد تضع لفظ الواحد في معنى الجميع، قال الله تعالى: {والملائكةُ بعد ذلك ظهير} [التحريم: 4] أي: ظهراء، وأنشد:
فَقُلْنا أسلِموا إِنَّا أَخوكم ** فقد بَرِئتْ من الإِحَنِ الصدورُ

وأنشد أيضًا:
في حَلْقكم عظمٌ وقد شَجينا

وقال غيره: إِنما قال: {طفلًا} فوحَّد، لأن الميم في قوله تعالى: {نخرجكم} قد دلَّت على الجميع، فلم يحتج إِلى أن يقول: أطفالًا.
قوله تعالى: {ثم لتبلغوا} فيه إِضمار، تقديره: ثم نعمِّركم لتبلغوا أشدكم، وقد سبق معنى الأشُد [الأنعام: 153]، {ومنكم من يُتَوفَّى} من قبل بلوغ الأشُدِّ {ومنكم من يُردُّ إِلى أرذل العُمُر} وقد شرحناه في [النحل: 70].
ثم إِن الله تعالى دلَّهم على إِحيائه الموتى باحيائه الأرض، فقال تعالى: {وترى الأرض هامدة} قال ابن قتيبة: أي: ميتة يابسة، ومثله: همدت النار: إِذا طفئت فذهبت.
قوله تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء} يعني: المطر {اهتزَّت} أي: تحرَّكت للنبات، وذلك أنها ترتفع عن النبات إِذا ظهر، فهو معنى قوله تعالى: {وربت} أي: ارتفعت وزادت.
وقال المبرِّد: أراد: اهتزَّ نباتها وربا، فحذف المضاف.
قال الفراء: وقرأ أبو جعفر المدني: {وربأَت} بهمزة مفتوحة بعد الباء.
فإن كان ذهب إِلى الرَّبيئة الذي يحرس القوم، أي: أنه يرتفع، وإِلا، فهو غلط.
قوله تعالى: {وأنبتت من كل زوج بهيج} قال ابن قتيبة: من كل جنس حَسَنٍ يبهج، أي: يسرُّ، وهو فعيل في معنى فاعل. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث} إلى قوله: {مُّسَمًّى} فيه اثنتا عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث} هذا احتجاج على العالم بالبداءة الأولى.
وقوله: {إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ} متضمّنة التوقيف.
وقرأ الحسن بن أبي الحسن {البَعَث} بفتح العين؛ وهي لغة في {البَعْث} عند البصريين.
وهي عند الكوفيين بتخفيف بَعَث.